الأوقات الصعبة تتطلب إج
الأوقات الصعبة تتطلب إجراءات صعبة، كما يقال. ويعتقد أن هذه العبارة ولدت خلال عمل الطبيب اليوناني القديم أبوقراط، حيث قال: “الأكثر ملاءمة في مواجهة الأمراض القاسية هو أساليب قاسية من العلاج، مثل التقييد”. على أن المسألة عندما تتعلق بحلفاء الغرب، لا سيما حلفاء الولايات المتحدة، فإن هذه “التقييدات” اكتسبت معنى مختلفاً.
عندما هدد الاتحاد السوفييتي العالم بالتمدد الشيوعي، اتخذت الولايات المتحدة خطوات تصعيدية لهزيمة الخطر الأحمر. ربما كانت تلك الأزمة هي الأبرد في الداخل الأمريكي، لكنها كانت الأسخن بالنسبة لدول مثل أفغانستان، التي استخدمت من قبل كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة لتغذية صراعاتهما بالوكالة.
عمت سحابة من السخط والاستياء العالم كله إثر سباق التسلح، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يسعيان لاكتساح العالم بأيديولوجيتهما.
كانت الولايات المتحدة تبحث عن طريقة لوقف المد الشيوعي، فيما جاء الجواب من سفيرها في موسكو، جورج إف كنان، الذي أرسل البرقية الطويلة الشهيرة إلى وزير الخارجية الأمريكي عام 1946، والتي اقترح فيها على الإدارة الأمريكية سياسة احتواء الاتحاد السوفييتي, وأوصى كنان بحظر الشيوعية في كل مكان في العالم. لقد كانت هذه هي السياسة الخارجية الرسمية التي تبنتها الحكومة الأمريكية.
قامت القوات السوفييتية بغزو أفغانستان في 1979 لمساعدة الحكومة الشيوعية في هذا البلد الآسيوي، الذي غالبية سكانه من المسلمين المناهضين للشيوعية. وفي هذه النقطة تدخلت الولايات المتحدة، لا بصورة مباشرة، بل عبر حلفائها، وتحديداً المملكة العربية السعودية، وأيديولوجيتها التي توصف بالتوسعية الإسلامية، والمعروفة بالوهابية، في مسعى لاحتواء الروس.
قال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مقابلة مع واشنطن بوست في 2018: “انتشار الوهابية الممول سعودياً بدأ كنتيجة لطلب الدول الغربية من الرياض المساعدة في محاربة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة”، في اعتراف تاريخي حول العلاقات بين الولايات المتحدة والغرب، وبين الطائفة المتهمة على نطاق واسع بأنها مصدر للإرهاب في العالم.
الصلات بين الغرب والوهابية
لقد كانت الوهابية، الطائفة الحديثة نسبياً، والتي أصبحت جزءاً من الإسلام بعد المزج بين عقيدة “المجسمة” المبتدعة، التي تقول بأن الله يشبه البشر، وبين طائفة الخوارج، الإجراء الصعب الذي أقدمت عليه الولايات المتحدة ضد التمدد السوفييتي. وفي الحقيقة، فإن الصلات بين الغرب والوهابية تضرب جذورها في التاريخ إلى ما هو أبعد من ذلك. فقبل أن ترث الولايات المتحدة السيطرة على هذه الأيديولوجية، كانت بريطانيا سباقة إلى ذلك.
فبريطانيا كانت القوة العظمى الأولى التي تستخدم هذه الأيديولوجية كأداة سياسية عندما وجدت الفرصة مواتية لتقسيم الإمبراطورية العثمانية، من خلال حركات تمرد شنتها عشائر عربية تقودها الوهابية في منطقة نجد.
يقول الباحث والكاتب التركي، محمد حسن بولوط، إن “البريطانيين تتبعوا هذه الحركة الجديدة منذ البداية، التي رأوا فيها فرصة لسلخ الجزيرة العربية عن الإمبراطورية العثمانية. لقد أقاموا اتصالات مع الوهابيين وزودوهم بالدعم المالي”. وأشار بولوط إلى أن بريطانيا قامت بعد الحرب العالمية الأولى بتسليم الأيديولوجية الوهابية إلى الولايات المتحدة.
وأضاف الباحث التركي: “بالطبع كانت الوهابية تنتشر، ولكن بدعم من الولايات المتحدة، لا بجهود المملكة العربية السعودية”.
متفقاً مع ما ذهب إليه بولوط، يقول الأكاديمي التركي، أكرم بوغرا إيكينجي، إن الأيديولوجية الوهابية، التي استخدمت العنف في الأيام الأولى من تأسيسها، جرى تحويلها إلى بنية دعوية وثقافية بجهود من الملك فيصل، ومن ثم بدأت السعودية تنفق الملايين من الدولارات كل عام لتفرض هيمنتها على دول إسلامية فقيرة، خاصة تلك الدول التي نالت استقلالها حديثاً، بزعم “إعادة الإسلام إلى أصوله”.
ويرى الكاتب والباحث التركي، علي توفكجي، في حديثه عن تمدد الوهابية في هذه الدول، ومنها أفغانستان، أن “الدعاية الوهابية انتشرت عبر الكتب والمجلات والجرائد والمؤسسات الثقافية ومنصات نشر عديدة أخرى، بدعم من الولايات المتحدة ابتداء من الحرب الباردة. كانت هذه وسيلة أمريكية في الحرب الباردة، لمواجهة الشيوعية. وبالنسبة للسعوديين، ساهمت في هدف تحويل بلادهم إلى قائد عبر إعادة تشكيل العالم الإسلامي”.
العقيدة الإسلامية السنية، والتي اعتبرت خطأ مصدراً للوهابية، تتفرع إلى مذاهب داخلية مختلفة، تدعى الحتفية والحنبلية والمالكية والشافعية. وتعد جميعها مدارس مذاهب مشروعة ضمن الشريعة الإسلامية، على اعتبار أن اختلافاتهم واقعة في الجانب العملي التطبيقي من الدين وليس الجانب الاعتقادي. أما الوهابية من جهتها، والتي تأثرت بشدة بفئة “الخوارج”، تزعم أنها تدعو إلى “الإسلام النقي”. إن فئة الخوارج تصنف أولئك الذين لا يلتزمون عقائدهم بـ”الكفار”.
في الواقع، لا علاقة للوهابية تقربياً بالإسلام، بل لقد مهدت الطريق لنشوء حركة “تحديث” الإسلام، بسبب تفسيراتها الدينية الخاطئة والنكوصية والراديكالية، في تصادم مع المعتقدات الإسلامية التقليدية. لتخدم بذلك الأهداف الأمريكية بشأن احتواء السوفييت في البلدان ذات الغالبية المسلمة، وكذلك الطموحات السعودية لتبوؤ والأهم الحفاظ على مؤكز القيادة في العالم الإسلامي.
تأسيس مجموعات إرهابية راديكالية
قادت الأيديولوجية الوهابية، بطبيعتها، إلى تحريف العقيدة الإسلامية وتعاليمها، بعدما فتحت الباب أمام التفسيرات الفردية للدين، وكذلك استبعاد بعض أهم أسس المنظومة الاعتقادية في الإسلام. ومن ثم، أدت التفسيرات الفردية بالطبع إلى أفهام وتطبيقات راديكالية، والتي توحدت لتنتج المنظمات الإرهابية، منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
ويؤكد الأكاديمي التركي، إيكينجي، أنه “كان لهذه البنية التحتية الأيديولوجية تأثير قوي على المنظمات الإرهابية الراديكالية التي تأسست في الشرق الأوسط، تحت ذريعة الكفاح من أجل الاستقلال والتحرر”.
وبالمثل، يرى توفكجي أن “العديد من المنظمات الإرهابية، وخاصة القاعدة وطالبان، تأسست على هذه القاعدة”، مضيفاً أن “الولايات المتحدة كانت تدعم بسخاء تشكيل كتلة مناهضة للشيوعية في حربها ضد الاتحاد السوفييتي، فيما كان الفهم الوهابي للتمرد العسكري والتكفير ينتشر تحت مسمى “الجهاد”.
حاولت الولايات المتحدة بعد ذلك الخروج من الفوضى التي خلقتها في البداية، إلى جانب السوفييت والأيديولوجية السعودية، فيما أصبح المسلحون على أساس أيديولوجي، الذين كانوا يوصفون بالمقاتلين من أجل الحرية ذات يوم، إرهابيين، احتاجت الأمريكيون مجموعات أخرى شبه عسكرية لمحاربتهم.
لقد دربت الولايات المتحدة آلاف المسلحين في المنطقة، بعضهم ما زال يشن حرباً ضد إرهابيين يشتبه بصلاتهم مع طالبان، في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن أن تنهي أطول حرب في أفغانستان عبر إطلاق محادثات للسلام مع طالبان.
هذه المليشيات المدربة والممولة والمجهزة من قبل “سي آي إيه”، خاصة تلك التي تتمركز على طول الحدود الباكستانية – الأفغانية، تحظى من حين إلى آخر بتغطية من الإعلام العالمي. ليس بوسع أحد أن يكون واثقاً بالكلية من أن محادثات السلام بين الولايات المتحدة وطالبان ستؤدي إلى النتائج المرجوة. وفيما لو حدثت تلك النتائج المرجوة، فإن هذه المجموعات المسلحة ستتردد على الأرجح في التخلي عن القتال ووضع سلاحها جانباً، وهو ما لا يحدث بسهولة في حالة حلفاء آخرين للولايات المتحدة، رغم اعتناقهم لأيديولوجيات مختلفة.